الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (1): قوله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:{براءة} أي عظيمة، ثم وصفها بقوله: {من} أي حاصلة واصلة من {الله} أي المحيط بصفات الكمال، فهو العالم بمن يستحق الولاية ومن يستحق البراءة {ورسوله} أي المتابع لأمره لعلمه به.ولما كانوا قد توقفوا في الحديبية كلهم أو كثير منهم تارة في نفس العهد وتارة في التأخر عن الأمر بالحلق، ثم تابعوا في كل منهما، وكان الكفار بمحل البعد عن كل خير، أشار إلى ذلك بأداة الغاية، وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله إشارة إلى أنه لا يخالفه أصلًا، وأسندت المعاهدة إليهم إشارة إلى ذلك التوقف تحذيرًا من أن يقع مثله، فقال مخبرًا عن النبذ الموصوف: {إلى الذين عاهدتم} أي أوقعتم العهد بينكم وبينهم {من المشركين} أي وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعًا لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع الانتظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وأما الله ورسوله فغنيان عن ذلك، أما الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فبالذي اختاره للرسالة لأنه ما فعل ذلك به إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب، وعلم أن ذلك فيمن نقض أو قارب من قوله بعد {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئًا}- الآية؛ قال البغوي: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهودًا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم} [الأنفال: 58] انتهى.وذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ولعله أطلق هنا ولم يقيد ممن خيف نقضه ليكون ذلك أول السورة مؤذنًا بأن الخيانة وهم بالنقض شأن أكثرهم ولاسيما مشركو قريش، وهم- لكون قريش رءوس الناس والناس تبع لهم في الخير والشر- يستحقون أن يعبر عنهم بما يفهم الكل ومبنى هذه السورة على البراءة من المشركين والموالاة للمؤمنين الدال على إيمانهم طاعة الله بالصلاة والزكاة والجهاد لمن أمر بالبراءة منه قل أو كثر قرب أو بعد في المنشط والمكره والعسر واليسر.ولما كان ظاهر الحال وقت تكامل نزولها- وهو شوال أو ذو العقدة أو ذو الحجة سنة تسع بعد مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك- أن الحرب قد وضعت أوزارها وأطفئت نارهم ببسط الإسلام في الخاص والعام، وما بين اليمن والشام، وانتشار ألويته وأعلامه، وتأيد رئيسه وإمامه بقهر جيوش الكفار، وقصد الناس له بالاتباع من جميع الأمصار، أكد أمر الجهاد ومصادمة الأنداد في هذه السورة تأكيدًا لم يؤكد في غيرها؛ ذكر الواقدي في أواخر غزوة تبوك كلامًا ثم قال: قالو: وقدم رسول الله صلى لله عليه وسلم المدينة- يعني من غزوة تبوك- في رمضان سنة تسع ثم قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فجعل القوي منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك وقال: «لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال» وإنما قلت: إن تكامل نزولها كان في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة لأن البغوي نقل عن الزهري أن أولها نزل في شوال، وقال ابن إسحاق- ونقله عنه البيهقي في دلائل النبوة-: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منصرفه من تبوك بقية شهر رمضان وشوالًا وذا القعدة ثم بعث أبا بكر- رضى الله عنهم- أميرًا على الحج في سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم- وأسند البيهقي في دلائله إلى عروة قال: فلما أنشأ الناس الحج تمام سنة تسع بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الناس وكتب له سنن الحج- انتهى.فخرج أبو بكر والمؤمنون- رضى الله عنهم- ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينهم وبينه أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد في الشهر الحرام؛ وكان ذلك عهدًا عامًا بينه وبين الناس من أهل الشرك؛ ونقل أبو محمد البستي عنه أنه قال: فكانت هذه المدة والعهد الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العرب أنه لا يصد أحد عن البيت ولا يتعرض لحاج ولا معتمر، ولا يقاتل في الشهر الحرام؛ وكان أمانًا مستفيضًا من بعضهم لبعض على غير مدة معلومة؛ رجُع إلى ما رأيته أنا في سيرته: وكانت بين ذلك عهود بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون؛ ثم قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق- رضى الله عنهم- ليقيم للناس الحج قيل له: يا رسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر! فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب- رضى الله عنهم- فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يجح بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته.فهذا فيه أنها نزلت بعد سفر أبي بكر- رضى الله عنهم-، وإنما قيدت أنا بتكامل نزولها لأنه ورد أن الذي في النقض فبعث به عليًا- رضى الله عنهم- إنما هو عشر آيات أو سبع، وفي بعض الروايات التصريح بنزولها قبل سفر أبي بكر- رضى الله عنه-، ففي زيادات مسند الإمام أحمد عن علي- رضى الله عنه- قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر- رضى الله عنه- فبعثه بها ليقرأ ها على أهل مكة، ثم دعاني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أدرك أبا بكر، فحيث ما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم- فذكره، وفيه أن أبا بكر- رضى الله عنهم- قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع: أنزل فيّ شيء؟ قال: «لا، ولكن جبريل عليه السلام جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك». ونقل البغوي عن ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم بعث مع أبي بكر بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأ ها على أهل الموسم، ثم بعث بعده عليًا على ناقته الغضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة.وفيه أن أبا بكر- رضى الله عنهم- قال: يا رسول الله! أنزل في شأني شيء؟قال: «لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا الأمر إلا رجل من أهلي». فتبين أن الأول من إطلاق الكل على الجزء لاسيما وهو الذي فيه البراءة، وما سميت السورة براءة إلا به؛ وأن المعنى: لا يؤدي عني في العهود، لا مطلقًا، فقد أرسل رسلًا للأداء عنه من غير أهل بيته؛ وقال المهدوي في تفسير {فسيحوا في الأرض}: وروي أن هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد خروج أبي بكر بالناس ليحج بهم سنة تسع، فبعث بها النبي صلى الله صلى عليه وسلم عليًا- رضى الله عنهم- ليتلوها على الناس بالموضع الذي يجتمع فيه الفريقان وهو منى، وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فنادى عليّ وأعانه أبو هريرة وغيره- رضى الله عنهم- وكان على مكة حينئذ عتاب بن أسيد- رضى الله عنهم-، استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو عام ثمان، وكان حج عتاب وأبي بكر سنة تسع في ذي العقدة- كذا قال وسيأتي بيان بطلانه، وتقدم خلافه عن ابن إسحاق في دلائل النبوة؛ وقال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره: حدثنا قتيبة عن الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من تبوك فأراد الحج فقال: إنه يحضر البيت المشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعليًا- رضى الله عنهما-، فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها كلها وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر- يعني أشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، فآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا، فآمن الناس أجمعون.وفي سيرة ابن إسحاق: حدثنا يونس- يعني ابن بكير- عن أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} قال: عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلى السيف أو الإسلام؛ وقال ابن هشام: حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب- رضى الله عنهم- فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجل الناس أربعة اشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم؛ وللترمذي عن زيد بن أثيع قال: سألت عليًا- رضى الله عنهم-: بأيّ شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر.ونقل ابن سيد الناس عن ابن عائذ انه لما ضرب للمشركين هذا الأجل قالوا: بل الآن لا نبتغي تلك المدة، نبرأ منك ومن ابن عمك إلا بالضرب والطعن؛ فحج الناس عامهم ذلك، فلما رجعوا رغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعًا وكرهًا.وصدق الله ورسوله فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان.وقد وردت نصوص وظواهر في كثير من سورة براءة أنه نزل قبل الرجوع عن تبوك أو قبل الاعتذار، فمن النصوص قوله تعالى: {لو كان عرضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} وقوله: {فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدًا}- الآيات، {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم} إلى أن قال: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} [التوبة: 94] وأما الظواهر فإن الواقدي قال في سيرته فأنزل من القرآن في غزوة تيوك، ثم ذكر اكثر سورة براءة وقال هو وغيره من أصحاب السير: وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في تبوك منهم وديعة بن ثابت- فذكر القصة التي فيها أن بعضهم قال ترهيبًا للمؤمنين: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غدًا مقرنين في الحبال، وقال كل منهم شيئًا إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا- إلى أن قال: إن بعضهم قال: إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل الله فيه {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} إلى قوله: {بأنهم كانوا مجرمين} ثم قال: وجاء الجلاس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلف ما قال من ذلك شيئًا، وكان قد قال: إن كان محمد صادقًا فنحن شر من الحمير، فأنزل الله عز وجل فيه {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر}- إلى آخرها، فاعترف الجلاس حينئذ وتاب وحسنت توبته، وذكر مسجد الضرار وأن أهله كانوا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متجهز إلى تبوك أن يصلي لهم فيه فاعتذر إليهم بشغله بالسفر ووعدهم أن يصلي فيه إذا رجع، فلما نزل صلى الله عليه وسلم بذي أوان- قال ابن هشام: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار- أتاه خبره وخبر أهله من السماء، فدعا اثنين من أصحابه فأمرهما به فأحرقاه، وتفرق أهله ونزل فيه من القرآن ما نزل: {والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا}- إلى آخر القصة؛ قال الواقدي: وكان عاصم ابن عدي يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت عبد الله بن نبتل وثعلبة بن حاطب قائمين على المسجد الضرار- إلى أن قال: فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه وذم أهله {والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا} [التوبة: 107]- إلى آخرها، ومن ذلك تسميتها بالفاضحة، فلولا نزولها قبل معرفة أخبارهم لم تكن فاضحة، وهي في الظاهر للمعاهدين وفي الباطن مشيرة إلى أهل الردة وأن لا يقبل منهم إيمان ما لم يجمعوا بين الصلاة والزكاة كما فهم أبو بكر- رضى الله عنهم-، وأقيمت على ذلك قرائن منها تكرير الجمع بين الصلاة والزكاة في سياق الإيمان تكريرًا لم يكن في غيرها من السور، فهي من أعلام النبوة؛ وروى أبو محمد إسحاق بن إبراهيم القاضي البستي في تفسيره عن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهمًا: عشر منها في براءة، وعشر في الأحزاب، وعشر في المؤمنين وسأل سائل. اهـ.
|